الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
المعنى الصحيح الذي هو نفي المثل والشريك والند قد دل عليه قوله سبحانه: {أَحَدٌ} وقوله: وقول القائـل: الأحـد أو الصمـد أو غير ذلك هـو الـذي لا ينقسـم ولا يتفـرق، أو ليس بمركب ونحـو ذلك. هـذه العبارات إذا عنـي بها أنـه لا يقبـل التفـرق والانقسـام فهـذا حـق، وأمـا إن عني به أنه لا يشار إليه بحال، أو من جنس ما يعنـون بالجوهر الفرد أنه لا يشار إلى شيء منـه دون شيء، فهـذا عنـد أكثر العقـلاء يمتنع وجـوده، وإنمـا يقـدر في الذهـن تقـديرًا، وقـد علمنا أن العـرب حيث أطلـقت لفظ [الواحد] و[الأحد] نفيًا وإثباتًا لم ترد هـذا المعنى، فقـولـه تعالى: وقد بسطنا الكلام على هذا بسطًا كثيرًا في المباحث العقلية والسمعية التي يذكرها نفاة الصفات من الجهمية وأتباعهم في كتابنا المسمي [بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية]. ولهذا لما احتجت الجهمية على السلف - كالإمام أحمد وغيره - على نفي الصفات باسم الواحد، قال أحمد: قالوا: لا تكونون موحدين أبدًا حتى تقولوا: قد كان الله، ولا شيء، قلنا: نحن نقول: كان الله ولا شيء، ولكن إذا قلنا: إن الله لم يزل بصفاته كلها أليس إنما نصف إلهًا واحدًا، وضربنا لهم في ذلك مثلًا فقلنا: أخبرونا عن هذه النخلة، أليس لها جَذْعٌ وكِربٌ ولَيْفٌ وسَعَفٌ وخُوَصٌ وجُمَّارٌ واسمها شيء واحد، وسميت نخلة بجميع صفاتها؟ فكذلك الله - وله المثل الأعلى - بجميع صفاته إله واحد، لا نقول: إنه قد كان في وقت من الأوقات ولا قدرة له حتى خلق لنفسه قدرة، ولا نقول: قد كان في وقت من الأوقات لا يعلم حتى/خلق له علمًا، ولكن نقول: لم يزل عالمًا قادرًا مالكًا، لا متى ولا كيف. ومما يبين هذا أن سبب نزول هذه السورة الذي ذكره المفسرون يدل على ذلك فإنهم ذكروا أسبابا: أحدها: ما تقدم عن أُبي بن كعب أن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: انسب لنا ربك، فنزلت هذه السورة. والثاني: أن عامر بن الطفيل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إلى ما تدعونا إليه يا محمد؟ قال: (إلى الله) قال: فصفه لي، أمن ذهب هو، أم من فضة، أم من حديد؟ فنزلت هذه السورة. وروي ذلك عن ابن عباس من طريق أبي ظبيان، وأبي صالح عنه. والثالث: أن بعض اليهود قال ذلك، قالوا: من أي جنس هو. وممن ورث الدنيا، ولمن يورثها؟ فنزلت هذه السورة، قاله قتادة والضحاك. قال الضحاك وقتادة ومقاتل: جاء ناس من أحبار اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد صف لنا ربك لعلنا نؤمن بك، فإن الله أنزل نعته في التوراة، فأخبرنا به من أي شيء هو؟ ومن أي جنس هو: أمن ذهب؟ أم من نحاس هو؟ أم من صفر؟ أم من حديد؟ أم من فضة؟ وهل يأكل ويشرب؟ وممن ورث الدنيا؟ ولمن يورثها؟ فأنزل الله هذه السورة. وهي نسبة الله خاصة. /والرابع: ما روي عن الضحاك، عن ابن عباس، أن وفد نجران قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم بسبعة أساقفة من بني الحارث بن كعب، منهم السيد والعاقب، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: صف لنا ربك من أي شيء هو؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ربي ليس من شيء، وهو بائن من الأشياء) فأنزل الله تعالى: وهذا مما يبين أن هذه السورة اشتملت على جميع أنواع التنزيه والتحميد، على النفي والإثبات؛ ولهذا كانت تعدل ثلث القرآن. فالصمدية تثبت الكمال المنافي للنقائص، والأحـدية تثبت الانفـراد بذلك، / وكذلك إذا نزه نفسه عن أن يلد فيخرج منه مادة الولد التي هي أشـرف المـواد، فـلأن ينزه نفسـه عـن أن يخـرج منـه مـادة غير الولد بطريق الأولى والأحـرى، وإذا نزه نفسه عن أن يخرج منه مواد للمخلوقات فلأن ينزه عن أن يخـرج منـه فضـلات لا تصلح أن تكـون مادة بطريق الأولى والأحرى. والإنسان يخرج منـه مـادة الولد، ويخـرج منـه مـادة غـير الولد، كما يخلق من عرقه ورطوبته القمل والدود وغير ذلك، ويخرج منه المخاط والبصاق وغير ذلك. وقد نزه الله أهل الجنة عن أن يخرج منهم شيء من ذلك، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم لا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يبصقون، ولا يتمخطون، وأنه يخرج منهم مثل رشح المسك، وأنهم يجامعون بذكر لا يخفي، وشهوة لا تنقطع، ولا مني، ولا منية، وإذا اشتهي أحدهم الولد كان حمله ووضعه في زمن يسير. فقد تضمن تنزيه نفسه عن أن يكون له ولد، وأن يخرج منه شيء من الأشياء، كما يخرج من غيره من المخلوقات، وهذا ـ أيضًا ـ من تمام معنى الصمد، كما سبق في تفسيره أنه الذي لا يخرج منه شيء، وكذلك تنزيه نفسه عن أن يولد ـ فلا يكون من مثله ـ تنزيه له أن يكون من سائر المواد بطريق الأولى والأحرى. وقد تقدم في حديث أبي بن كعب أنه ليس شيء يولد إلا سيموت، / وليس شيء يموت إلا يورث، والله ـ تعالى ـ لا يموت ولا يورث. وهذا رد لقول اليهود: ممن ورث الدنيا، ولمن يورثها؟ وكذلك ما نقل من سؤال النصارى: صف لنا ربك، من أي شيء هو؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ربي ليس من شيء، وهو بائن من الأشياء)، وكذلك سؤال المشركين واليهود: أمن فضة هو؟ أم من ذهب هو؟ أم من حديد؟ . وذلك لأن هؤلاء عهدوا الآلهة التي يعبدونها من دون الله يكون لها مواد صارت منها؛ فعباد الأوثان تكون أصنامهم من ذهب وفضة وحديد وغير ذلك. وعباد البشر سـواء كان البشر لم يأمروهم بعبادتهم، أو أمروهم بعبادتهم، كالذين يعبدون المسيح وعزيرًا، وكقوم فرعون الذين قال لهم: وقد قال غير واحد من السلف: إن هذه أسماء قوم صالحين كانوا فيهم، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم بعد ذلك/عبدوهم، وذلك أول ما عبدت الأصنام، وأن هذه الأصنام صارت إلى العرب. وقد ذكر ذلك البخاري في صحيحه عن ابن عباس، قال: صارت الأوثان التي في قوم نوح في العرب بعد: أما وَدٌّ فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سُواع فكانت لهذيل، وأما يغوثُ فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع، أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا وسموها بأسمائهم ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت. ونوح ـ عليه السلام ـ أقام في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعوهم إلى التوحيد، وهو أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، كما ثبت ذلك في الصحيح. ومحمد صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل، وكلا المرسلين بعث إلى مشركين يعبدون هذه الأصنام التي صورت على صور الصالحين من البشر، والمقصود بعبادتها عبادة أولئك الصالحين. وكذلك المشركون من أهل الكتاب ومن مبتدعة هـذه الأمــة وضلالها هذا غاية شركهم، فإن النصارى يصورون في الكنائس صور من يعظمونه من الإنس غير عيسى وأمه، مثل مارجرجس وغيره من القداديس، ويعبدون تلك الصور، ويسألونها ويدعونها ويقربون/ لها القرابين، وينذرون لها النذور، ويقولون: هذه تذكرنا بأولئك الصالحين، والشياطــين تضلهم ـ كما كانت تضل المشركين تارة ـ بأن يتمثل الشيطان في صورة ذلك الشخص الذي يدعي ويعبد فيظن داعيه أنه قد أتي، أو يظن أن الله صور ملكًا على صورته، فإن النصراني ـ مثلًا ـ يدعو في الأَسْرِ وغيره مارجرجس أو غيره فيراه قد أتاه في الهواء، وكذلك آخر غيره، وقد سألوا بعض بطارقتهم عن هذا: كيف يوجد في هذه الأماكن؟ فقال: هذه ملائكة يخلقهم الله على صورته تغيث من يدعوه، وإنما تلك شياطين أضلت المشركين. وهكذا كثيرًا من أهل البدع والضلال والشرك المنتسبين إلى هذه الأمة، فإن أحدهم يدعو ويستغيث بشيخه الذي يعظمه وهو ميت، أو يستغيث به عند قبره ويسأله، وقد ينذر له نذرًا ونحو ذلك، ويرى ذلك الشخص قد أتاه في الهواء ودفع عنه بعض ما يكره، أو كلمه ببعض ما سأله عنه، ونحو ذلك، فيظنه الشيخ نفسه أتي إن كان حيًا، حتى إني أعرف من هؤلاء جماعات يأتون إلى الشيخ نفسه الذي استغاثوا به وقد رأوه أتاهم في الهواء فيذكرون ذلك له. هؤلاء يأتون إلى هذا الشيخ، وهؤلاء يأتون إلى هذا الشيخ، فتارة يكون الشيخ نفسه لم يكن يعلم بتلك القضية، فإن كان يحب الرياسة سكت وأوهم أنه نفسه أتاهم وأغاثهم، وإن كان فيه صدق مع جهل وضلال قال: هذا مَلَكٌ صوره الله علي/صورتي. وجعل هذا من كرامات الصالحين، وجعله عمدة لمن يستغيث بالصالحين، ويتخذهم أربابًا، وأنهم إذا استغاثوا بهم بعث الله ملائكة على صورهم تغيث المستغيث بهم. ولهذا أعرف غير واحد من الشيوخ الأكابر الذين فيهم صدق وزهد وعبادة لما ظنوا هذا من كرامات الصالحين صار أحدهم يوصى مريديه يقول: إذا كانت لأحدكم حاجة فليستغث بي، وليستنجدني وليستوصني، ويقول: أنا أفعل بعد موتي ما كنت أفعل في حياتي، وهو لا يعرف أن تلك شياطين تصورت على صورته لتضله، وتضل أتباعه، فتحسن لهم الإشراك بالله، ودعاء غير الله، والاستغاثة بغير الله، وأنها قد تلقي في قلبه أنا نفعل بعد موتك بأصحابك ما كنا نفعل بهم في حياتك، فيظن هذا من خطاب إلهي ألقي في قلبه، فيأمر أصحابه بذلك. وأعرف من هؤلاء من كان له شياطين تخدمه في حياته بأنواع الخدم مثل: خطاب أصحابه المستغيثين به، وإعانتهم، وغير ذلك، فلما مات صاروا يأتون أحدهم في صورة الشيخ، ويشعرونه أنه لم يمت، ويرسلون إلى أصحابه رسائل بخطاب. وقد كان يجتمع بي بعض أتباع هذا الشيخ، وكان فيه زهد وعبادة، وكان يحبني ويحب هذا الشيخ، ويظن أن هذا من الكرامات، وأن الشيخ لم يمت، وذكر لي الكلام الذي أرسله إليه بعد موته، فقرأه فإذا هو كلام الشياطين/بعينه. وقد ذكر لي غير واحد ممن أعرفهم أنهم استغاثوا بي فرأوني في الهواء وقد أتيتهم وخلصتهم من تلك الشدائد، مثل من أحاط به النصارى الأرمن ليأخذوه، وآخر قد أحاط به العدو ومعه كتب ملطفات من مناصحين لو اطلعوا على ما معه لقتلوه، ونحو ذلك، فذكرت لهم أني ما دريت بما جرى أصلا، وحلفت لهم على ذلك حتى لا يظنوا أني كتمت ذلك كما تكتم الكرامات، وأنا قد علمت أن الذي فعلوه ليس بمشروع، بل هو شرك وبدعة، ثم تبين لي فيما بعد، وبينت لهم أن هذه شياطين تتصور على صورة المستغاث به. وحكي لي غير واحد من أصحاب الشيوخ أنه جرى لمن استغاث بهم مثل ذلك، وحكي خلق كثير أنهم استغاثوا بأحياء وأموات فرأوا مثل ذلك. واستفاض هذا حتى عرف أن هذا من الشياطين. والشياطين تغوي الإنسان بحسب الإمكان، فإن كان ممن لا يعرف دين الإسلام أوقعته في الشرك الظاهر، والكفر المحض؛ فأمرته ألا يذكر الله، وأن يسجد للشيطان، ويذبح له، وأمرته أن يأكل الميتة والدم ويفعل الفواحش. وهذا يجري كثيرًا في بلاد الكفر المحض وبلاد فيها كفر وإسلام ضعيف، ويجري في بعض مدائن الإسلام في المواضع التي يضعف إيمان أصحابها، حتى قد جرى ذلك في مصر والشام على أنواع يطول وصفها، وهو في أرض الشرق قبل ظهور/الإسلام في التتار كثيرًا جدًا، وكلما ظهر فيهم الإسلام وعرفوا حقيقته قلت آثار الشياطين فيهم، وإن كان مسلمًا يختار الفواحش والظلم أعانته على الظلم والفواحش. وهذا كثير جدًا أكثر من الذي قبله في البلاد التي في أهلها إسلام وجاهلية وبر وفجور، وإن كان الشيخ فيه إسلام وديانة ولكن عنده قلة معرفة بحقيقة ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد عرف من حيث الجملة أن لأولياء الله كرامات، وهو لا يعرف كمال الولاية، وأنها الإيمان والتقوى واتباع الرسل باطنًا وظاهرًا، أو يعرف ذلك مجملًا ولا يعرف من حقائق الإيمان الباطن وشرائع الإسلام الظاهرة ما يفرق به بين الأحوال الرحمانية، وبين النفسانية والشيطانية، كما أن الرؤيا ثلاثة أقسام: رؤيا من الله، ورؤيا مما يحدث المرء به نفسه في اليقظة فيراه في المنام، ورؤيا من الشيطان. فكذلك الأحوال، فإذا كان عنده قلة معرفة بحقيقة دين محمد صلى الله عليه وسلم أمرته الشياطين بأمر لا ينكره، فتارة يحملون أحدهم في الهواء ويقفون به بعرفات ثم يعيدونه إلى بلده، وهو لابس ثيابه لم يحرم حين حاذى المواقيت، ولا كشف رأسه، ولا تجرد عما يتجرد عنه المحرم، ولا يدعونه بعد الوقوف يطوف طواف الإفاضة ويرمي الجمار ويكمل حجه، بل يظن أن مجرد الوقوف ـ كما فعل ـ/عبادة، وهذا من قلة علمه بدين الإسلام، ولو علم دين الإسلام لعلم أن هذا الذي فعله ليس عبادة لله، وأنه من استحل هذا فهو مرتد يجب قتله. بل اتفق المسلمون على أنه يجب الإحرام عند الميقات ولا يجوز للإنسان المحرم اللبس في الإحرام إلا من عذر، وأنه لا يكتفي بالوقوف، بل لابد من طواف الإفاضة باتفاق المسلمين، بل وعليه أن يفيض إلى المشعر الحرام، ويرمي جمرة العقبة، وهذا مما تُنُوزع فيه هل هو ركن، أو واجب يجبره دم؟ وعليه ـ أيضًا ـ رمي الجمار أيام مني باتفاق المسلمين، وقد تحمل أحدهم الجن فتزوره بيت المقدس وغيره، وتطير به في الهواء، وتمشي به في الماء، وقد تريه أنه قد ذهب به إلى مدينة الأولياء، وربما أرته أنه يأكل من ثمار الجنة، ويشرب من أنهارها. وهذا كله وأمثاله مما أعرفه قد وقع لمن أعرفه، لكن هذا باب طويل ليس هذا موضع بسطه. وإنما المقصود أن أصل الشرك في العالم كان من عبادة البشر الصالحين، وعبادة تماثيلهم، وهم المقصودون. ومن الشرك ما كان أصله عبادة الكواكب: إما الشمس وإما القمر وإما غيرهما، وصورت الأصنام طلاسم لتلك الكواكب. وشرك قوم إبراهيم ـ والله أعلم ـ كان من هذا، أو كان بعضه من هذا. ومن الشرك ما كان أصله عبادة الملائكة أو الجن، وضعت الأصنام لأجلهم، وإلا فنفس الأصنام/الجمادية لم تعبد لذاتها، بل لأسباب اقتضت ذلك، وشرك العرب كان أعظمه الأول، وكان فيه من الجميع. فإن عَمْرو بن لُحَي هو أول من غير دين إبراهيم ـ عليه السلام ـ وكان قد أتي الشام ورآهم بالبلقاء لهم أصنام يستجلبون بها المنافع، ويدفعون بها المضار، فصنع مثل ذلك في مكة لما كانت خزاعة ولاة البيت قبل قريش، وكان هو سيد خزاعة. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رأيت عَمْرو بن لُحَي بن قَمَعَة بن خِنْدِفَ يجر قصْبَهُ في النار - أي أمعاءه ـ وهو أول من غير دين إبراهيم، وسيب السوائب، وبحر البحيرة). وكذلك - والله أعلم ـ شرك قوم نوح وإن كان مبدؤه من عبادة الصالحين، فالشيطان يجر الناس من هذا إلى غيره، لكن هذا أقرب إلى الناس؛ لأنهم يعرفون الرجل الصالح وبركته ودعاءه، فيعكفون على قبره، ويقصدون ذلك منه، فتارة يسألونه، وتارة يسألون الله به، وتارة يصلون ويدعون عند قبره ظانين أن الصلاة والدعاء عند قبره أفضل منه في المساجد والبيوت. ولما كان هذا مبدأ الشرك سد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الباب، كما سد باب الشرك بالكواكب. ففي صحيح مسلم عنه أنه قال قبل أن يموت بخمس: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك). وفي/الصحيحين عنه أنه صلى الله عليه وسلم ذكر له كنيسة بأرض الحبشة، وذكر من حسنها وتصاوير فيها، فقال: (إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك هم شرار الخلق عند الله يوم القيامة) . وفي الصحيحين عنه أنه قال صلى الله عليه وسلم في مرض موته: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا) قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدًا. وفي مسند أحمد وصحيح أبي حاتم عنه أنه قال صلى الله عليه وسلم: (إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد). وفي سنن أبي داود وغيره عنه أنه قال صلى الله عليه وسلم: (لا تتخذوا قبري عيدًا، وصلوا على حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني). وفي موطأ مالك عنه أنه قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). وفي صحيح مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي على بن أبي طالب ـ رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمرني ألا أدع قبرًا مشرفًا إلا سوىته، ولا تمثالًا إلا طمسته. فأمره بمحو التمثالين: الصورة الممثلة على صورة الميت، والتمثال الشاخص المشرف فوق قبره، فإن الشرك يحصل بهذا وبهذا. /وقد ثبت عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أنه كان في سفر فرأى قومًا ينتابون مكانًا للصلاة فقال: ما هذا؟ فقالوا: هذا مكان صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنما هلك من كان قبلكم بهذا، أنهم اتخذوا آثار أنبيائهم مساجد، من أدركته الصلاة فليصل، وإلا فليمض. وبلغه أن قومًا يذهبون إلى الشجرة التي بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه تحتها فأمر بقطعها. وأرسل إليه أبو موسى يذكر له أنه ظهر بتستر قبر دانيال، وعنده مصحف فيه أخبار ما سيكون، قد ذكر فيه أخبار المسلمين، وأنهم إذا أجدبوا كشفوا عن القبر فمطروا، فأرسل إليه عمر يأمره أن يحفر بالنهار ثلاثة عشر قبرًا، ويدفنه بالليل في واحد منها لئلا يعرفه الناس؛ لئلا يفتنوا به. فاتخاذ القبور مساجد مما حرمه الله ورسوله، وإن لم يبن عليها مسجدًا كان بناء المساجد عليها أعظم. كذلك قال العلماء: يحرم بناء المساجد على القبور، ويجب هدم كل مسجد بني على قبر، وإن كان الميت قد قبر في مسجد وقد طال مكثه سوى القبر حتى لا تظهر صورته، فإن الشرك إنما يحصل إذا ظهرت صورته؛ ولهذا كان مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أولًا مقبرة للمشركين، وفيها نَخْلٌ وخِرَبٌ، فأمر بالقبور فنبشت، وبالنخل فقطع وبالخرب فسوىت، فخرج عن أن يكون مقبرة، فصار مسجدًا. /ولما كان اتخاذ القبور مساجد، وبناء المساجد عليها محرمًا، ولم يكن شيء من ذلك على عهد الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولم يكن يعرف قط مسجد على قبر، وكان الخليل ـ عليه السلام ـ في المغارة التي دفن فيها، وهي مسدودة لا أحد يدخل إليها، ولا تشد الصحابة الرحال لا إليه ولا إلى غيره من المقابر؛ لأن في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا). فكان يأتي من يأتي منهم إلى المسجد الأقصى يصلون فيه، ثم يرجعون لا يأتون مغارة الخليل ولا غيرها، وكانت مغارة الخليل مسدودة، حتى استولى النصارى على الشام في أواخر المائة الرابعة، ففتحوا الباب وجعلوا ذلك المكان كنيسة، ثم لما فتح المسلمون البلاد اتخذه بعض الناس مسجدًا. وأهل العلم ينكرون ذلك. والذي يرويه بعضهم في حديث الإسراء أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: هذه طيبة انزل فصل، فنزل فصلى، هذا مكان أبيك انزل فصل- كذب موضوع لم يصل النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة إلا في المسجد الأقصى خاصة، كما ثبت ذلك في الصحيح، ولا نزل إلا فيه. ولهذا لما قدم الشام من الصحابة من لا يحصي عددهم إلا الله، / وقدمها عمر بن الخطاب لما فتح بيت المقدس، وبعد فتح الشام لما صالح النصارى على الجزية وشرط عليهم الشروط المعروفة، وقدمها مرة ثالثة حتى وصل إلى سَرْغٍ، ومعه أكابر السابقين الأولين من المهاجرىن والأنصار، فلم يذهب أحد منهم إلى مغارة الخليل، ولا غيرها من آثار الأنبياء التي بالشام، لا ببيت المقدس، ولا بدمشق، ولا غير ذلك، مثل الآثار الثلاثة التي بجبل قاسيون، في غربيه الربوة المضافة إلى عيسى -عليه السلام، وفي شرقيه المقام المضاف إلى الخليل - عليه السلام، وفي وسطه وأعلاه مغارة الدم المضافة إلى هابيل لما قتله قابيل، فهذه البقاع وأمثالها لم يكن السابقون الأولون يقصدونها، ولا يزورونها، ولا يرجون منها بركة، فإنها محل الشرك. ولهذا توجد فيها الشياطين كثيرًا، وقد رآهم غير واحد على صورة الإنس، ويقولون: لهم رجال الغيب، يظنون أنهم رجال من الإنس غائبين عن الأبصار، وإنما هم جن، والجن يسمون رجالًا، كما قال الله تعالى: والمقصود ههنا أن الصحابة والتابعين له بإحسان لم يبنوا قط على قبر نبي، ولا رجل صالح مسجدًا، ولا جعلوه مشهدًا ومزارًا، ولا على شيء من آثار الأنبياء، مثل مكان نزل فيه أو صلى فيه أو فعل فيه شيئًا من ذلك، لم يكونوا يقصدون بناء مسجد لأجل آثار الأنبياء والصالحين، ولم يكن جمهورهم يقصدون الصلاة في مكان لم يقصد الرسول الصلاة فيه، بل نزل فيه أو صلى فيه اتفاقًا، بل كان أئمتهم كعمر بن الخطاب وغيره ينهي عن قصد الصلاة في مكان صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم اتفاقًا لا قصدًا، وإنما نقل عن ابن عمر خاصة أنه كان يتحرى أن يسير حيث سار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينزل حيث نزل، ويصلي حيث صلي، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد تلك البقعة لذلك الفعل، بل حصل اتفاقًا، وكان ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ رجلا صالحًا شديد الاتباع، فرأي هذا من الاتباع، وأما أبوه وسائر الصحابة من الخلفاء الراشدين: عثمان وعلى وسائر العشرة وغيرهم، مثل ابن مسعود ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب فلم يكونوا يفعلون ما فعل ابن عمر، وقول الجمهور أصح. /وذلك أن المتابعة أن يفعل مثل ما فعل، على الوجه الذي فعل، لأجل أنه فعل، فإذا قصد الصلاة والعبادة في مكان معين كان قصد الصلاة والعبادة في ذلك المكان متابعة له، وأما إذا لم يقصد تلك البقعة فإن قصدها يكون مخالفة لا متابعة له. مثال الأول: لما قصد الوقوف والذكر والدعاء بعرفة ومزدلفة وبين الجمرتين كان قصد تلك البقاع متابعة له، وكذلك لما طاف وصلي خلف المقام ركعتين كان فعل ذلك متابعة له، وكذلك لما صعد على الصفا والمروة للذكر والدعاء كان قصد ذلك متابعة له. وقد كان سلمة بن الأكوع يتحرى الصلاة عند الأُسطوانة، قال: لأني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحرى الصلاة عندها، فلما رآه يقصد تلك البقعة لأجل الصلاة كان ذلك القصد للصلاة متابعة. وكذلك لما أراد عِتْبَانُ بن مَالكٍ أن يبني مسجدًا لما عمي فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: إني أحب أن تأتيني تصلي في منزلي فأتخذه مصلي. وفي رواية فقال: تعال فخط لي مسجدًا، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم ومن شاء من أصحابه. وفي رواية: فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق حين ارتفع النهار، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذنت له، فلم يجلس حتى دخل البيت، فقال: (أين تحب أن أصلي من بيتك؟) فأشرت له إلى ناحية من البيت، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقمنا وراءه فصلى ركعتين، ثم سلم، الحديث. /فإنه قصد أن يبني مسجدًا وأحب أن يكون أول من يصلي فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يبنيه في الموضع الذي صلى فيه، فالمقصود كان بناء المسجد، وأراد أن يصلي النبي صلى الله عليه وسلم في المكان الذي يبنيه، فكانت الصلاة مقصودة لأجل المسجد، لم يكن بناء المسجد مقصودًا لأجل كونه صلى فيه اتفاقًا، وهذا المكان مكان قصد النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة فيه ليكون مسجدًا، فصار قصد الصلاة فيه متابعة له، بخلاف ما اتفق أنه صلى فيه بغير قصد، وكذلك قصد يوم الاثنين والخميس بالصوم متابعة لأنه قصد صوم هذين اليومين، وقال في الحديث الصحيح إنه-: (تفتح أبواب الجنة في كل خميس وإثنين فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا إلا رجلًا كان بينه وبين أخيه شَحْنَاءُ فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا). وكذلك قصد إتيان مسجد قباء متابعة له، فإنه قد ثبت عنه في الصحيحين أنه كان يأتي قباء كل سبت راكبًا وماشيًا، وذلك أن الله أنزل عليه: ولهذا كان السلف يكرهون الصلاة فيما يشبه ذلك، ويرون العتيق أفضل من الجديد؛ لأن العتيق أبعد عن أن يكون بني ضرارًا من الجديد الذي يخاف ذلك فيه، وعتق المسجد مما يحمد به؛ ولهذا قال: ومع هذا فلا يسافر إليه، لكن إذا كان الإنسان بالمدينة أتاه، ولا يقصد إنشاء السفر إليه بل يقصد إنشاء السفر إلى المساجد الثلاثة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا)؛ ولهذا لو نذر السفر إلى مسجد قباء لم يوف بنذره عند الأئمة الأربعة وغيرهم، بخلاف المسجد الحرام فإنه يجب الوفاء بالنذر إليه باتفاقهم، وكذلك مسجد المدينة، وبيت المقدس، في أصح قوليهم، وهو مذهب مالك وأحمد والشافعي في أحد قوليه، وفي الآخرـ وهو قول أبي حنيفةـ ليس عليه ذلك، لكنه جائز ومستحب؛ لأن من أصله أنه لا يجب بالنذر إلا ما كان واجبًا بالشرع: والأكثرون يقولون: يجب بالنذر كل ما كان طاعة لله، كما ثبت في صحيح البخاري عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه). ويستحب ـ أيضًا ـ زيـارة قبور أهل البقيع، وشهداء أحد، للدعاء لهم والاستغفار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصد ذلك، مع أن/ هذا مشروع لجميع موتي المسلمين، كما يستحب السـلام عليهم والدعاء لهم، والاستغفار. وزيـارة القبـور بهـذا القصـد مستحبـة. وسواء في ذلك قبـور الأنبياء والصالحـين وغـيرهم. وكـان عبد الله بن عمر إذا دخل المسجد يقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت ثم ينصرف. وأمـا زيارة قبـور الأنبياء والصالحـين لأجل طلب الحاجات منهم، أو دعائهم والإقسام بهم على الله، أو ظن أن الدعاء أو الصلاة عند قبورهم أفضل منه في المساجد والبيوت، فهـذا ضـلال وشـرك وبدعـة باتفاق أئمـة المسلمين، ولم يكن أحد من الصحابة يفعل ذلك، ولا كانـوا إذا سلمـوا على النبي صلى الله عليه وسلم يقفـون يدعـون لأنفسهم؛ ولهذا كره ذلك مالك وغيره مـن العلماء، وقـالوا: إنـه مـن البـدع التي لم يفعلها السلف، واتفـق العلماء الأربعـة وغـيرهم مـن السلف على أنه إذا أراد أن يدعو يستقبل القبلة، ولا يستقبل قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وأما إذا سلم عليه فأكثرهم قالوا: يستقبل القبر، قاله مالك والشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة: بل يستقبل القبلة - أيضًا - ويكون القبر عن يساره، وقيل: بل يستدبر القبلة. ومما يبين هذا الأصل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر هو وأبو بكر ذهبا إلى الغار الذي بجبل ثور، ولم يكن على طريقهما/ بالمدينة، فإنه من ناحية اليمن، والمدينة من ناحية الشام، ولكن اختبآ فيه ثلاثًا لينقطع خبرهما عن المشركين، فلا يعرفون أين ذهبا، فإن المشركين كانوا طالبين لهما، وقد بذلوا في كل واحد منهما ديته لمن يأتي به، وكانوا يقصدون منع النبي صلى الله عليه وسلم أن يصل إلى أصحابه بالمدينة، وألا يخرج من مكة، بل لما عجزوا عن قتله أرادوا حبسه بمكة، فلو سلك الطريق ابتداء لأدركوه، فأقام بالغار ثلاثًا لأجل ذلك، فلو أراد المسافر من مكة إلى المدينة أن يذهب إلى الغار، ثم يرجع لم يكن ذلك مستحبًا بل مكروهًا. والنبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة سلك طريق الساحل وهي طويلة، وفيها دورة، وأما في عمره وحجته فكان يسلك الوسط، وهو أقرب إلى مكة، فسلك في الهجرة طريق الساحل؛ لأنها كانت أبعد عن قصد المشركين، فإن الطريق الوسطي كانت أقرب إلى المدينة، فيظنون أنه سلكها، كما كان إذا أراد غزوة وَرَّي بغيرها. وهو صلى الله عليه وآله وسلم لما قسم غنائم حنين بالجِعْرانَةِ اعتمر منها، ولما صده المشركون عن مكة حل بالحديبية، وكان قد أنشأ الإحرام بالعمرة من ميقات المدينة ذي الحليفة، ولما اعتمر من العام القابل عمرة القضية اعتمر من ذي الحليفة، ولم يدخل الكعبة في عمره ولا حجته وإنما دخلها عام الفتح، وكان بها صور مصورة فلم يدخلها/حتى محيت تلك الصور، وصلي بها ركعتين. وصلي يوم الفتح ثمان ركعات وقت الضحى، كما روت ذلك أم هانئ. ولم يكن يقصد الصلاة وقت الضحى إلا لسبب مثل أن يقدم من سفر، فيدخل المسجد فيصلي فيه ركعتين، ومثل أن يشغله نوم أو مرض عن قيام الليل فيصلي بالنهار ثنتي عشرة ركعة، وكان يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة، فصلى ثنتي عشرة ركعة شفعًا لفوات وقت الوتر، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: (المغرب وتر صلاة النهار، فأوتروا صلاة الليل)، وقال: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا)، وقال: (صلاة الليل مثني مثني، فإذا خفت الصبح فأوتر بركعة). والمأثور عن السلف أنهم إذا ناموا عن الوتر كانوا يوترون قبل صلاة الفجر، ولا يؤخرونه إلى ما بعد الصلاة. وفي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحة الضحى قط، وإني لأسبحها، وإن كان ليدع العمل، وهو يحب أن يعمل بـــه خشــية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم. وقد ثبت عنه في الصحيح أنه أوصى بركعتي الضحى لأبي هريرة، ولأبي الدرداء، وفيها أحاديث، لكن صلاته ثمان ركعات يوم الفتح جعلها بعض العلماء صلاة الضحى. وقال آخرون: لم يصلها إلا يوم الفتح، فعلم أنه صلاها لأجل/الفتح. وكانوا يستحبون عند فتح مدينة أن يصلي الإمام ثماني ركعات شكرًا لله، ويسمونها صلاة الفتح، قالوا: لأن الاتباع يعتبر فيه القصد والنبي صلى الله عليه وسلم لا يقصد الصلاة لأجل الوقت، ولو قصد ذلك لصلي كل يوم، أو غالب الأيام، كما كان يصلي ركعتي الفجر كل يوم، وكذلك كان يصلي بعد الظهر ركعتين، وقبلها ركعتين أو أربعًا، ولما فاتته الركعتان بعد الظهر قضاهما بعد العصر، وهو صلى الله عليه وسلم لما نام هو وأصحابه عن صلاة الفجر في غزوة خيبر فصلوا بعد طلوع الشمس ركعتين، ثم ركعتين، لم يقل أحد: إن هذه الصلاة في هذا الوقت سنة دائمًا؛ لأنهم إنما صلوها قضاء، لكونهم ناموا عن الصلاة، ولما فاتته العصر في بعض أيام الخندق فصلاها بعد ما غربت الشمس. وروي أن الظهر فاتته - أيضًا - فصلى الظهر، ثم العصر، ثم المغرب، لم يقل أحد: إنه يستحب أن يصلي بين العشاءين أحد عشر ركعة؛ لأن ذلك كان قضاء، بل ولا نقل عنه أحد أنه خص ما بين العشاءين بصلاة. وقولـه تعالى: {نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} [المزمل: 6]، عنـد أكثر العلماء هو إذا قام الرجل بعد نـوم ليس هو أول الليل، وهذا هو الصواب؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هكذا كان يصلي، والأحاديث بذلك متواترة عنه، كان يقوم بعد النوم لم يكن يقوم بين العشاءين. /وكذلك أكله ما كان يجد من الطعام، ولبسه الذي يوجد بمدينته طيبة مخلوقًا فيها، ومجلوبًا إليها من اليمن وغيرها؛ لأنه هو الذي يسره الله له، فأكله التمر، وخبزه الشعير، وفاكهته الرطب والبطيخ الأخضر والقثاء، ولبس ثياب اليمن؛ لأن ذلك هو كان أيسر في بلده من الطعام والثياب، لا لخصوص ذلك، فمن كان ببلد آخر وقوتهم البُرُّ والذرة، وفاكهتهم العنب والرمان، ونحو ذلك، وثيابهم مما ينسج بغير اليمن القز لم يكن إذا قصد أن يتكلف من القوت والفاكهة واللباس ما ليس في بلده ـ بل يتعسر عليهم ـ متبعًا للرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كان ذلك الذي يتكلفه تمرًا أو رطبًا أو خبز شعير، فعلم أنه لابد في المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم من اعتبار القصد والنية فـ (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى). فعلم أن الذي عليه جمهور الصحابة وأكابرهم هو الصحيح، ومع هذا فابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ لم يكن يقصد أن يصلي إلا في مكان صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكن يقصد الصلاة في موضع نزوله ومقامه، ولا كان أحد من الصحابة يذهب إلى الغار المذكور في القرآن للزيارة والصلاة فيه ـ وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أقاما به ثلاثًا يصلون فيه الصلوات الخمس ـ ولا كانوا أيضًا يذهبون إلى حراء وهو المكان الذي كان يتعبد فيه قبل النبوة /وفيه نزل عليه الوحي أولًا، وكان هذا مكان يتعبدون فيه قبل الإسلام، فإن حراء أعلى جبل كان هناك، فلما جاء الإسلام ذهب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة مرات بعد أن أقام بها قبل الهجرة بضع عشرة سنة، ومع هذا فلم يكن هو ولا أصحابه يذهبون إلى حراء. ولما حج النبي صلى الله عليه وسلم استلم الركنين اليمانيين، ولم يستلم الشاميين؛ لأنهما لم يبنيا على قواعد إبراهيم، فإن أكثر الحجر من البيت، والحجر الأسود استلمه وَقَبَّلَهُ، واليماني استلمه ولم يقبله، وصلي بمقام إبراهيم ولم يستلمه، ولم يقبله، فدل ذلك على أن التمسح بحيطان الكعبة غير الركنين اليمانيين وتقبيل شيء منها غير الحجر الأسود ليس بسنة، ودل على أن استلام مقام إبراهيم وتقبيله ليس بسنة، وإذا كان هذا نفس الكعبة، ونفس مقام إبراهيم بها، فمعلوم أن جميع المساجد حرمتها دون الكعبة، وأن مقام إبراهيم بالشام وغيرها وسائر مقامات الأنبياء دون المقام الذي قال الله فيه: فعلم أن سائر المقامات لا تقصد للصلاة فيها، كما لا يحج إلى سائر المشاهد، ولا يتمسح بها، ولا يقبل شيء من مقامات الأنبياء ولا المساجد ولا الصخرة ولا غيرها، ولا يقبل ما على وجه الأرض إلا الحجر الأسود. /وأيضًا، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يصل بمسجد بمكة إلا المسجد الحرام، ولم يأت للعبادات إلا المشاعر: منى، ومزدلفة، وعرفة؛ فلهذا كان أئمة العلماء على أنه لا يستحب أن يقصد مسجدًا بمكة للصلاة غير المسجد الحرام، ولا تقصد بقعة للزيارة غير المشاعر التي قصدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا كان هذا في آثارهم، فكيف بالمقابر التي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من اتخذها مساجد، وأخبر أنهم شرار الخلق عند الله يوم القيامة؟!
|